-A +A
محمد مفتي
لا شك أن قضايا الفساد هي إحدى القضايا المؤرقة للدولة وللمواطن في الدول النامية والمتقدمة على حد سواء، وبداية يجب أن نعرف ونعترف بأنه لا توجد دولة في العالم قديماً أو حديثاً خالية من نوع من أنواع الفساد؛ فالفساد قضية أزلية ارتبطت بالنفس البشرية غير السوية منذ الخليقة، تصديقاً لقوله عز وجل «قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين، إلا عبادك منهم المخلصين»، وفي سبيل مكافحة الفساد يجب علينا أن نحدد أولاً مفهوم الفساد الذي نحن بصدده حتى نتمكن من وضع الحلول المناسبة له، فغياب هذا التعريف يجعل من الصعب وضع الحلول الناجعة لكل نوع من أنواع الفساد، لذلك ونحن بصدد معالجة هذه القضية ينبغي علينا أن نكون كالطبيب الماهر الذي يحدد نوع المرض بدقة من أجل وصف العلاج الفعال له.

لقد انتشرت خلال الفترة الماضية على قنوات التواصل الاجتماعي بعض الكتابات التي تناولت قضايا الفساد، كما قام آخرون بتدشين ما يسمى بـ«الهاشتاق» هنا وهناك للتشهير ببعض المرافق وبالمسؤولين فيها، دون أن نعلم في الأساس من الذي أطلقها وما الدافع الحقيقي وراء إطلاقها، ولقد استرعى انتباهي في كل ذلك قضيتان كانتا محل الأخذ والجذب حتى على مستوى الكتابات والأخبار الصحفية.


لقد شنت الكثير من الأقلام «والهاشتاقات» هجوماً على تأخر تنفيذ مشروع مطار الملك عبدالعزيز الجديد بجدة، لقد لمح البعض لوجود شبهة فساد، بينما أعرب آخرون عن اعتقادهم بوجود خلل إداري غير معروف سببه، وبصفة شخصية لا أستطيع أن أدلي بدلوي وأنا لا أعلم أين تكمن الحقيقة، فأنا بعيد كل البعد عن مشاريع هيئة الطيران المدني وعقودها، لكني قرأت أخيراً خبراً أوردته العديد من الصحف لفت انتباهي، يفيد بأن الحكومة البريطانية وافقت أخيراً على تنفيذ «مدرج ثالث» وتوابعه لمطار هيثرو الدولي بتكلفة تقديرية 17.6 مليار جنيه إسترليني، أي ما يوازي 82 مليار ريال سعودي، وأكثر ما صدمني هو أن إجراءات الموافقة على هذا المدرج وتوابعه استغرقت في أروقة الوزارات البريطانية قرابة 13 عاماً، وحتى كتابة هذه السطور فإن الأمر لا يزال معروضاً على البرلمان البريطاني للموافقة على هذا المشروع من عدمه، «ووفقاً لهذه المقاييس وجدتنا أحسن حالاً منهم».

من ناحية أخرى، راجت خلال الأيام الماضية في عدد من وسائل التواصل الاجتماعي أنباء عن استغلال بعض المسؤولين في الجامعات لمناصبهم وقيامهم بتعيين بعض أقاربهم دون وجه حق، وهذه الأخبار المتداولة تستدعي منا التوقف ومناقشتها ببعض الحزم وبالكثير من الوضوح، فعبارة «دون وجه حق» لا يصدرها إلا قاض قام بمراجعة جميع حيثيات التعيين بشكل يتيح له إصدار مثل هذا الحكم، وهذه الحيثيات من المؤكد أنها غير متوافرة للعامة؛ لأنها تتبع لجانا متخصصة، لذلك فإن جميع ما تم سرده وتناوله لا يعدو أن يكون شبهة بسبب توافر ظروف القرابة، ولا أعلم شيئاً في القضاء وأحكامه يتيح لنا توجيه التهم للآخرين ومعاقبتهم بناء على الشبهة فقط.

في الحقيقة لست بصدد الدفاع عن هذه الجامعة أو تلك، لكن هناك أسئلة محيرة تدور في ذهني أحاول منذ فترة أن أبحث لها عن إجابات دون أن أتمكن من ذلك، أولها: لماذا يتم التركيز في قضية توظيف الأقارب على القطاع الجامعي فقط؟ فهل الجامعات هي الممثل الوحيد لكافة القطاعات الحكومية، من المؤكد أن هناك العشرات من المرافق الحكومية الأخرى والتي يمكن أن تحدث فيها مثل هذه التجاوزات، فهل هناك صكوك براءة وغفران لهذه القطاعات؟ ثانياً: هل يحتاج الأمر لمنصب رفيع كوزير أو نائب وزير لكي تتم هذه التجاوزات، فما يسجل في الغرف المظلمة وعلى مستوى المناصب الدنيا ربما يفوق ما يدور في العلن وبين ذوي المناصب الرفيعة. من المؤكد أن التركيز في قضايا الفساد على جانب واحد فقط يبدو كما لو أن رجلاً فقد محفظته في شارع مظلم فذهب ليبحث عنها في شارع مضيء، والنتيجة هي أنه لن يجد ما يبحث عنه!. كما أن توجيه التهم بناء على الشبهة يخرج أي قضية نتعامل معها من دائرة الموضوعية إلى دائرة مظلمة وأشد سواداً تسمى «التحيز».

من المؤكد أن أسباب توجيه أي اتهام لمسؤول أو مرفق لا يخرج عن أحد أمرين: الأول موضوعي ويصب في الصالح العام؛ لأنه مبني على أدلة لا تحتمل الشك، ويمثل هذا جرس إنذار لجميع المرافق، أما السبب الثاني فهو شخصي بحت ولا علاقة له بالصالح العام، وقد أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي منبراً لأي متضرر ولكل متضرر لكي يقوم بالثأر من أي مسؤول حقاً أو ظلماً، فقد يكون هذا المسؤول ضحية لطالب فاشل في مدرسة أو جامعة قامت بفصله لسوء سلوكه مثلاً، وقد يكون ضحية لموظف سيئ تم فصله أو حرمانه من الترقية بسبب غيابه المتكرر أو سوء سلوكه، وما يدفعني لأن أميل لكون ما ينشر في قنوات التواصل يصب في خانة الاتهام الشخصي هو قيام البعض بنبش دفاتر بعض المسؤولين القديمة للبحث عن أي ذلة أو هفوة ثم نشرها على الملأ، ولو قامت أي دولة بمحاكمة كل مسؤول عن هذه السجلات القديمة فلن يدوم مسؤول في مركزه لأكثر من سويعات قليلة.

أخيراً.. يبقى السؤال المهم بل والأهم: في حالة عدم ثبوت صحة ما تم نشره، من يرد للمسؤول اعتباره؟ هل تردها له الصحف غير المكترثة لسمعته والمكتفية بالتعليق على الأمر بأنه لا صحة لما يشاع؟ إن ما نريده هو تقنين طرق مكافحة الفساد وتداول المعلومات، فنحن نريد الحد من تداول المعلومات المغلوطة، نريد الخروج من دائرة التحيز الضيقة إلى عالم الموضوعية الذي يتسع للجميع، من المؤكد أن هناك الكثير من الأخطاء فنحن لسنا مجتمعا من الملائكة، لكن المجتمع الصحي ليس ذلك المجتمع الخالي من الفساد، ولكنه المجتمع القادر على كشف الفساد بهدوء بعيداً عن التشهير ثم محاكمة المتسببين في حدوثه، المجتمع الصحي هو الذي يملك آلية التصحيح ويسعى لخفض معدل الفساد ويتوسع في وسائل الوقاية منه، ذلك هو المجتمع الذي نتمنى أن نكون جميعاً جزءاً منه، ولن نتمكن أبداً من أن نكون جزءاً منه طالما أن الشائعات هي من تحكمنا والشبهات هي من تحركنا.